فصل: الحجة في تثبيت خبر الواحد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **


*1* الجزء الثالث‏.‏

قال أبو القاسم عبد الرحمن بن نصرقال‏:‏ نا أبو علي الحسن بن حبيب

قال‏:‏ نا الربيع بن سليمانقال‏:‏ أنا الشافعي‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

قال‏:‏ ولمْ يُحْظَرْ أن يجوزَ أقلُّ مِن ذلك، فأجَزْنَا ما أجاز المسلمون، ولم يكن هذا خِلافاً لِلْقرآن‏.‏

قلنا‏:‏ فهكذا قلْنَا في تثبيت خبر الواحد، استدلالاً بأشياءَ كلُّها أقْوَى مِن إجازة شَهادَةِ النِّساء‏.‏

فقال‏:‏ فهل مِن حُجَّةٍ تُفَرِّقُ بين الخبر والشهادة سِوى الاتِّباع‏؟‏

قلتُ‏:‏ نعم، ما لا أعْلَمُ مِن أهل العلم فيه مُخالِفًا‏.‏

قال‏:‏ وما هو‏؟‏

قلت‏:‏ العدْلُ يكون جائزَ الشهادَة في أمورٍ، مَرْدُودُهَا في أُمور‏.‏

قال‏:‏ فأيْنَ هو مَرْدُودُها‏؟‏

قلت‏:‏ إذا شَهِدَ في مَوْضعٍ يَجُرُّ به إلى نَفْسِه زيادةً، مِنْ أيِّ وَجْهٍ ما كان الجَرُّ، أو يَدْفَع بها عن نفسه غُرْمًا أو إلى ولَده أو والِده، أو يدْفَع بها عنْهما، ومواضِعِ الظِّنَنِ سِواها‏.‏

وفيه في الشهادة‏:‏ أنَّ الشاهِد إنما يَشْهَدُ بها على واحِدٍ لِيُلْزِمَهُ غُرْمًا أو عُقُوبةً، وللرجل ليُؤْخَذَ له غُرْمٌ أو عقوبة، وهو خَلِيٌّ مما لَزِمَ غيْرَه مِن غُرْم، غيرُ داخِل في غُرْمِه ولا عقوبته، ولا العارِ الذي لزمه، ولعله يجرُّ ذلك إلى مَن لَعَلَّهُ أن يكون أشدَّ تَحامُلاً له منه لوَلَده أو والِده، فيُقْبَلُ شهادتُه، لأنه لا ظِنَّةَ ظاهِرةًٌ كظِنَّته في نفْسِه وولده ووالده، وغيرِ ذلك مما يَبِينُ فيه مِن مَواضع الظِّنَنِ‏.‏

والمُحَدِّثُ بما يُحِلُّ ويحرِّم لا يجرُّ إلى نفسه ولا إلى غيره، ولا يَدْفع عنها ولا عن غيره، شيئاً مما يَتَمَوَّلُ الناسُ، ولا مما فيه عقوبةٌ عليهم ولا لهم، وهو ومَنْ حدَّثه ذلك الحديث من المسلمين‏:‏ سواءٌ، إن كان بأمرٍ يُحِلُّ أو يُحرِّم فهو شريكُ العامَّة فيه، لا تختلف حالاته فيه، فيكونَ ظَنِينًا مرَّةٍ مَرْدُودَ الخبر، وغيرَ ظنينٍ أُخْرَى مَقْبُولَ الخبر، كما تختلف حال الشاهِد لعوامِّ المسلمين وخواصِّهِمْ‏.‏

وللناس حالاتٌ تكون أخبارُهم فيها أصحَّ وأحْرَى أن يَحْضُرَها التَّقْوَى منها في أُخرى، ونِيَّاتُ ذوي النِيَّات فيها أصحُّ، وفِكرُهم فيها أدْوَمُ، وغفلتُهم أقلُّ، وتلك عند خوْف الموْت بالمرض والسفر، وعند ذِكْرِه، وغير تلك الحالات من الحالات المُنَبِّهَةِ عَن الغفْلة‏.‏

فقلتُ له‏:‏ قد يكون غيرُ ذي الصِّدْق مِن المسلمين صادقاً في هذه الحالات، وفي أن يُؤْتَمَنَ على خبر، فيُرَى أنه يُعْتَمَدُ على خبره فيه، فيَصْدُقُ غايَةَ الصِّدْقِ، إن لم يكن تقْوى فحَيَاءً مِن أن يُنْصَبَ لأمانَة في خبر لا يَدْفَعُ به عن نفسه ولا يَجُرُّ إليها‏:‏ ثم يَكْذِبُ بعْدَه، أو يَدَعُ التحَفُّظَ في بعض الصدق فيه‏.‏

فإذا كان موجوداً في العامة وفي أهل الكذب الحالاتُ يَصْدُقون فيها الصدقَ الذي تَطِيب به نفسُ المحدثين‏:‏ كان أهل التقوى والصدق في كل حالاتهم أولى أن يتحفظوا عند أولى الأمور بهم أن يتحفظوا عندها، في أنهم وُضِعُوا مَوْضِع الأمانة، ونُصِبُوا أعْلامًا لِلدين، وكانوا عالِمِين بما ألْزَمَهُم اللهُ مِن الصدق في كلِّ أمْر، وأن الحديث في الحلال والحرام أعْلى الأمور وأبْعَدُها مِن أن يكون فيه موضعُ ظِنَّةٍ، وقد قُدِّمَ إليهم في الحديث عن رسول الله بشيء لم يُقَدَّم إليهم في غيره، فوُعِدَ على الكذب على رسول الله النارُ‏.‏

عبد العزيز عن محمد بن عَجلان عن عبد الوهَّاب بن بُخْتٍ عن عبد الواحد النَّصْرِي عن واثلة بن الأسْقَعِ عن النبي قال‏:‏ إنَّ أَفْرَى الفِرَى مَنْ قَوَّلَنِي مَا لَمْ أَقُلْ، ومَنْ أرَى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَى، وَمَنِ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ‏[‏رواه البخاري كتاب المناقب‏.‏ باب‏:‏ نسبة اليمن إلى إسماعيل‏.‏ رقم 3318، وأحمد في مسند الشاميين 4/106 والشافعي في المسند 650‏.‏‏]‏ ‏.‏

عبد العزيز عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قالَ‏:‏ مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ‏[‏ هذا حديث متواتر روي بألفاظ كثيرة عن عدد من الصحابة‏.‏‏]‏

يحيى بن سُلَيْمٍ عن عبيد الله بن عمر عن أبي بكر بن سالم عن سالم عن ابن عمر أن النبي قال‏:‏ إنَّ الَّذِي يَكْذِبُ عَلَيَّ يُبْنىَ لَهُ بَيْتٌ فِي النَّارِ ‏[‏إسناده صحيح ورواه أحمد من هذا الطريق رقم 4742 - 5798 - 6309‏]‏

حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عبد العزيز بن محمد عن أُسِيدٍ بن أبي أُسيد عن أمه قالتْ‏:‏ قلتُ لأبي قتادة‏:‏ مَا لَكَ لاَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسثولِ اللهِ كَمَا يُحَدِّثُ النَّاسُ عَنْهُ‏؟‏ قالت‏:‏ فقال‏:‏ أبو قَتادةَ سمعت رسول الله يقول‏:‏ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلْتَمِسْ لِجَنْبِهِ مَضْجَعًا مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَمْسَحُ الأَرْضَ بَيَدِهِ ‏[‏ ذكره في كنز العمال وعزاه للشافعي والبيهقي في المعرفة 29226‏]‏

سفيان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنَّ رَسُولُ اللهِ قَالَ‏:‏ ‏(‏حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ ‏)‏ ‏[‏ روي عن عدد من الصحابة بأسانيد صحاح رواه أحمد عن أبي هريرة 11108 ومواضع‏.‏‏]‏

وهذا أشدُّ حديثٍ رُوِيَ عن رسول الله في هذا، وعليه اعْتَمدنا مع غيره في أنْ لا نقبَلَ حديثًا إلاَّ مِنْ ثِقة، ونعْرِفَ صدقَ مَنْ حَمَلَ الحديثَ مِن حينِ ابْتُدِئَ إلى أن يُبْلَغَ به مُنْتَهَاه‏.‏

فإن قال قائل وما في هذا الحديث من الدلالة على ما وصفت‏؟‏

قيل‏:‏ قد أحاط العلم أن النبي لا يأمر أحداً بحال أبداً أن يكذب على بني إسرائيل، ولا على غيرهم، فإذ أباح الحديث عن بني إسرائيل أن يقبلوا الكذب على بني إسرائيل أباح، وإنما أباح قبول ذلك عن من حدَّث به ممن يُجهل صدقه وكذبه‏.‏

ولم يُبِحْه أيضاً عن من يُعرف كذبه لأنه يُروى عنه أنه مَن حدَّث بحديث، وهو يُرَاه كذباً فهو أحد الكاذِبَين ومَن حدَّث عن كذاب لم يبرأ من الكذب؛ لأنه يرى الكذاب في حديثه كاذباً

ولا يُستدل على أكثرِ صدق الحديث وكذبه إلا بصدق اُلمخبِر وكذبه، إلا في الخاصِّ القليل من الحديث، وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحَدِّث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أَثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصدق منه‏.‏

وإذ فرق رسول الله بين الحديث عنه، والحديث عن بني إسرائيل فقال‏:‏ حدثوا عني ولا تكذبوا علي ‏:‏ فالعلم - إن شاء الله - يحيط أن الكذب الذي نهاهم عنه هو الكذب الخفي‏.‏ وذلك الحديث عمن لا يُعرف صدقه؛لأن الكذب إذا كان منهياً عنه على كل حال، فلا كذب أعظم من كذبٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم

*2*  الحجة في تثبيت خبر الواحد

قال الشافعي‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنصِّ خبر أو دلالةٍ فيه أو إجماعٍ‏.‏

فقلت له أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال‏:‏ نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏.‏ ثلاثٌ لا يَُغِلُّ ‏[‏ يغل بفتح الياء وضمها مع كسر العين فالفتح من الغل وهو الحقد، والضم من الإغلال وهو الخيانة‏]‏ عليهن قلبُ مسلم‏:‏ إخلاصُ العمل لله، والنصيحةُ للمسلمين، ولزوم، جماعتهم، فإنّ دعوتهم تحيط من روائهم‏.‏ ‏[‏رواه البيهقي في المدخل‏.‏ ورواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت‏.‏ كما في مشكاة المصابيح‏]‏

فلما نَدَب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرأً يؤديها، والامْرُءُ واحدٌ‏:‏ دلَّ على أنه لا يأمر أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دينٍ ودنيا‏.‏

ودل على أنه قد َححمل الفقهَ غيرُ فقيه،يكون له حافظاً، ولا يكون فيه فقيهاً‏.‏

وأمْرُ رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتج به في أن إجماع المسلمين - إن شاء الله - لازمٌ‏.‏

أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال‏:‏ قال النبي‏:‏ لا أُلفِيَنَّ أحدكم متّكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما نهيت عنه أو أمرت به، فيقول‏:‏ لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه

قال ابن عيينة‏:‏ وأخبرني محمد بن المنكدر عن النبي بمثله مرسلاً‏.‏

وفي هذا تثبيتُ الخبر عن رسول الله وإعلامُهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا له نصَّ حكمٍ في كتاب الله، وهو موضوع في غير هذا الموضع‏.‏

أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ‏:‏ أن رجلاً قبَّل امرأته وهو صائم، فَوَجَد من ذلك وجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أمِّ المؤمنين، فأخبرتها، فقالت أم سلمة‏:‏ إن رسول الله يقبِّل وهو صائم‏.‏ فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال‏:‏ لسنا مثلَ رسول الله، يُحِل الله لرسوله ما شاء‏.‏ فرجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله عندها، فقال رسول الله‏:‏ ما بال هذه المرأة‏؟‏ فأخبرته أم سلمة، فقال‏:‏ ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك‏؟‏ فقالت أم سلمة‏:‏ قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرتْه فزاده ذلك شراً، وقال‏:‏ لسنامثل رسول الله، يُحل الله لرسوله ما شاء‏.‏ فغضب رسول الله ثم قال‏:‏

والله إني لأتقاكم لله،ولأعلمكم بحدوده

وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذِكر مَن وصله‏.‏‏[‏ وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار وأحمد في المسند 5/434 وانظر مجمع الزوائد 3/166‏]‏

قال الشافعي‏:‏ في ذكر قول النبي صلى الله عليه‏:‏ ألَّا أخبرتيها أني أفعل ذلك دلالةٌ على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي إلا وفي خبرها ما تكون الحجةُ لمن أخبرتْه‏.‏

وهكذا خبرُ امرأته إن كانت من أهل الصدق عنده‏.‏

أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال‏:‏ بينما الناس بقُباءٍَ في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال‏:‏ إن رسول الله قد أُنزل عليه قُرَآن وقد أُمر أن يستقبل القبلة فاستقبَِلوها وكانت وجوههم إلى الشأْم فاستداروا إلى الكعبة

وأهلُ قباءٍَ أهلُ سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلةٍ فرض الله عليهم استقبالها‏.‏

ولم يكن لهم أن يَدَعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله، ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعاً من رسول الله ولا بخبر عامّةٍ، وانتقلوا بخبر واحد، إذا كان عندهم من أهل الصدق‏:‏ عن فرضٍ كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي أنه أَحدث عليهم من تحويل القبلة‏.‏

ولم يكونوا ليفعلوه - إن شاء الله - بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبُت بمثله، إذا كان من أهل الصدق‏.‏

ولا ليُحدثوا أيضاً مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثَه‏.‏

ولا يدعون أن يخبروا رسول الله بما صنعوا منه‏.‏

ولو كان ما قَبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة، وهو فرض‏:‏ مما يجوز لهم، لقال لهم - إن شاء الله - رسول الله‏:‏ قد كنتم على قبلةٍ، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني، أو خبرِ عامةٍ أو أكثرَ من خبر واحد عني‏.‏

أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجرَّاح وأُبيَّ بن كعب شراباً من فضيخٍ‏[‏ شراب يُتّخذ من البسر المشدوخ‏.‏ ‏]‏ وتمرٍ، فجاءهم آت فقال‏:‏ إن الخمر قد حُرِّمت‏.‏ فقال أبو طلحة‏:‏ قم يا أنس إلى هذه الجِرار فاكسرها، فقمت إلى مِهْراسٍ ‏[‏ حجر مستطيل منقور يُتَوضأ منه ويدقّ فيه‏.‏‏]‏ لنا، فضربتُها بأسفلِه حتى تكسَّرت‏.‏‏[‏ رواه البخاري‏:‏ في الأشربة، وفي خبر الواحد، ومسلم‏:‏ في الأشربة‏.‏‏]‏

وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتَقَدُّمِ صحبته بالموضع الذي لا يُنكِره عالم‏.‏

وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة - وهو مالك الجرار - بكسر الجرار، ولم يقل هو، ولاهم، ولا واحد منهم‏:‏ نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا أو يأتينا خبر عامَّة‏.‏

وذلك أنهم لا يُهرِيقون حلالاً، إهراقُه سَرَفٌ، وليسوا من أهله‏.‏

والحال في أنهم لا يدَعون إخبار رسول الله ما فعلوا، ولا يَدَع - لو كان قبِلوا من خبر الواحد ليس لهم -‏:‏ أن ينهاهم عن قبوله‏.‏

وأمر رسول الله أنيساً أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زَنَت، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها‏.‏

وأخبرنا بذلك مالك وسفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وساقا عن النبي‏.‏ وزاد سفيان مع أبي هريرة وزيد بن خالد ‏:‏ شِبْلاً‏.‏‏[‏ شِبل بن معبد وقيل‏:‏ ابن خليد وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ وانفرد بذكر ‏(‏شبل‏)‏ ابن عيينة‏.‏ قال ابن حجر في التهذيب‏:‏ ‏(‏‏(‏ولم يتابع على ذلك‏.‏ رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال النسائي‏:‏ الصواب الأول، قال‏:‏ وحديث ابن عيينة خطأ، وروى البخاري حديث ابن عيينة فأسقط منه شبلاً‏)‏‏)‏‏]‏

أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزُّرَقي عن أمه قالت‏:‏ بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جملٍ يقول‏:‏ إن رسول الله يقول‏:‏ إن هذه أيامُ طعام وشراب، فلا يصومنَّ أحد، فاتبع الناسَ وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك‏.‏

ورسول الله لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبرُه عن النبي،بصدقه عن المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي نهى عنه‏.‏

ومع رسول الله الحاجُّ، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافهَهُم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق‏.‏

وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمةٌ بقبول خبره عن رسول الله‏.‏

فإذا كان هكذا مع ما وصفتُ من مقدرة النبي على بعثه جماعةً إليهم‏:‏ كان ذلك - إن شاء الله - فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم،وأمكن فيهم‏:‏ أولى أن يَثبت به خبر الصادق‏.‏

أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خالٍ له - إن شاء الله - يقال له‏:‏ يزيد بن شيبان قال‏:‏ كنا في موقف لنا بعرفة يُباعده عمروٌ من موقف الإمام جداً، فأتانا ابن مِرْبَع الأنصاري فقال لنا‏:‏ أنا رسول رسول الله إليكم‏:‏ يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم‏.‏

وبعث رسول الله أبا بكر والياً على الحج في سنة تسع، وحضره الحج من أهل بلدان مختلفة، وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم‏.‏

وبعث عليَّ بن أبي طالب في تلك السنة، فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من سورة براءة ،ونبذ إلى قوم على سواءٍ وجعل لهم مدداً،ونهاهم عن أمور‏.‏

فكان أبو بكر وعليٌّ معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان من جَهِلَهما أو أحدَهما من الحاجّ وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما‏.‏

ولم يكن رسول الله ليبعث إلا واحداً الحجةُ قائمة بخبره على من بعثه إليه،إن شاء الله‏.‏

وقد فرَّق النبي عمّالًا على نواحي، عرفنا أسماءهم، والمواضع التي فرّقهم عليها‏.‏

فبعث قيسَ بن عاصم والزِّبرقانَ بن بدر وابن نُوَيرة إلى عشائرهم بعلمهم بصدقهم عندهم‏.‏

وقدِم عليهم وفد البحرين، فعرفوا من معه، فبعث معهم ابن سعيد بن العاص‏.‏

وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وأمره أن يقاتل مَن أطاعه مَن عصاه، ويعلِّمهم ما فرض الله عليهم، ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بمعاذ، ومكانِه منهم وصدقِه‏.‏

وكل من ولَّى فقد أمره بأخذ ما أوجب الله على من ولَّاه عليه‏.‏

ولم يكن لأحد عندنا في أحدٍ ممن قدِم عليه من أهل الصدق‏:‏ أن يقول‏:‏ أنت واحد وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يذكر أنه علينا‏.‏

ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي التي بعثهم إليها بالصدق‏:‏ إلا لِمَا وصفتُ من أن تقوم بمثلهم الحجةُ على من بعثه إليه‏.‏

وفي شبيهٍ بهذا المعنى أمراءُ سرايا رسول الله‏:‏ فقد بعَث بَعْث مؤتةَ فولَّاه زيدَ بنَ حارثة، وقال‏:‏ فإن أصيب فجعفرٌ، فإن أصيب فابنُ رواحة‏.‏ وبعث ابنَ أُنيس سريَّةً وحدَه‏.‏

وبعث أمراء سراياه، وكلُّهم حاكم فيما بعثه فيه؛ لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حلَّ قتاله‏.‏

وكذلك كلُّ والي بعثه أو صاحبِ سريَّة‏.‏

ولم يزل يمكنُه أن يبعث واليين وثلاثة وأربعة وأكثر‏.‏

وبعث في دهرٍ واحد اثنى عشر رسولاً إلى اثنى عشر ملكاً، يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة فيها، وألاّ يكتب فيها دلالاتٍ لمن بعثهم إليه على أنها كتُبُهُ‏.‏

وقد تحرّى فيهم ما تحرى في أمرائه‏:‏ من أن يكونوا معروفين، فبعث دَِحْية إلى الناحية التي هو فيها معروف‏.‏

ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلبُ علمِ أن النبي بعثه ليستبرىء شكَّه في خبر رسول الله، وكان على الرسول الوقوفُ حتى يستبرئه المبعوثُ إليه‏.‏

ولم تزل كتب رسول الله تَنْفُذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته تركُ إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقاً عند من بعثه إليه‏.‏

وإذا طلب المبعوثُ إليه عِلمَ صدقه وَجَدَه حيث هو‏.‏